كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال البخاري في صحيحه أيضًا: حدثني عثمان، حدثنا عبدة بن هشام، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قَلِيب بدر فقال: «هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟» ثم قال: «إنهم الآن يسمعون ما أقول» فذكر لعائشة فقالت إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق» ثم قرأت: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} حتى قرأت الآية انتهى من صحيح البخاري. وقد رأيته أخرج عن صحابيين جليلين، هما ابن عمر، وأبو طلحة النبي صلى الله عليه وسلم بأن أولئك الموتى يسمعون ما يقول لهم، ورد عائشة لرواية ابن عمر بما فهمت من القرآن مردود كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى.
وقد أوضحنا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} أن ردها على ابن عمر أيضًا روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الميت يعذب ببكاء أهله بما فهمت من الآية مردود أيضًا، وأوضحنا أن الحق مع ابن عمر في روايته لا معها فيما فهمت من القرآن. وقال البخاري في صحيحه أيضًا: حدثنا عياش، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد، قال: وقال لي خليفة: حدثنا ابن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أن العبد وضع في قبره وتولى وذهب أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فأقعداه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال: انظر إلى مقعدك في الجنة» الحديث، وقد رأيت في هذا الحديث الصحيح، تصريح النبي صلى الله عليه وسلم، بأن الميت في قبره، يسمع قرع نعال من دفنونه إذا رجعوا، وهو نص صحيح في سماع الموتى، ولم يذكر صلى الله عليه وسلم فيه تخصيصًا.
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثني إسحاق بن عمر بن إسحاق بن عمر بن سليط الهذلي، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت قال: قال أنس: كنت مع عمر ح وحدثنا شيبان بن فروخ واللفظ له: حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: كنا مع عمر بين مكة والمدينة والمدينة فتراءينا الهلال. الحديث. وفيه: فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس. يقول هذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله. قال: فقال عمر: فوالذي بعثه بالحق ما أخطأوا الحدود التي حد رسول الله صلى الله وعليه وسلم، فجعلوا في بئر بعضهم على بعض، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم، فقال «يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقًا؟ فإني قد وجدت ما وعدني الله حقًا.» قال عمر: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تكلم أجسادًا لا أرواح فيها؟ قال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا على شيئًا» حدثنا هداب بن خالد: حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناتي، عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثًا ثم أتاهم فقام عليهم فنادهم فقال: «يا أبا جهل بن هشام، يا أمية بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعدكم الله حقًا، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقًا» فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يسمعوا، وأنى يجيبوا وقد جَيَّفُوا؟ قال: «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا. ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في قَليب بدر» ثم ذكر مسلم بعد هذا رواية أنس عن أبي طلحة، التي ذكرناها عن البخاري، فترى هذه الأحاديث الثابتة في الصحيح عن عمر وابنه وأنس وأبي طلحة رضي الله عنهم، فيها التصريح من النبي صلى الله عليه وسلم، بأن الأحياء الحاضرين ليسوا بأسمع من أولئك الموتى لما يقوله صلى الله عليه وسلم، وقد أقسم صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم يذكر تخصيصًا، وقال مسلم رحمه الله في صحيحه أيضًا: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة، حدثنا أنس بن مالك قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه اصحاب إنه ليسمع قرع نعالهم قال يأتيه ملكان فيقعدانه» الحديث. وفيه تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بسماع الميت في قبره قرع النعال وهو نص صحيح في سماع الموتى، وظاهره العموم في كل من دفن وتولى عنه قومه، كما ترى.
ومن الأحاديث الدالة على عموم سماع الموتى ما رواه مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي ويحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد: قال: يحيى بن يحيى: وقال الآخران: حدثنا إسماعيل بن جعفر عن شريك، وهو ابن أبي نمر، عن عطاء بن يسار، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل الفرقد» ولم يقُمْ قتيبة قوله: «وأتاكم ما توعدون» وفي رواية في صحيح مسلم عنها قالت: كيف أقول لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قولي: «السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين. وإنا إن شاء الله بكم للاَحقون» ثم قال مسلم رحمه الله: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب قالا: حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول في رواية أبي بكر: السلام على أهل الديار وفي رواية زهير: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية» انتهى من صحيح مسلم. وخطابه صلى الله عليه وسلم لأهل القبور بقوله: «السلام عليكم» وقوله: «وإنا إن شاء الله بكم» ونحة ذلك يدل دلالة واضحة على أنهم يسمعون سلامه لأنهم لو كانوا لا يسمعون سلامه وكلامه لكان خطابه لهم من جنس خطاب المعدوم ولا شك أن ذلك ليس من شأن العقلاء فمن العبد جدًا صدوره منه صلى الله عليه وسلم، وسيأتي إن شاء الله ذكر حديث عمرو بن العاص الدال على أن الميت في قبره يستأنس بوجود الحي عنده.
وإذا رأيت هذه الأدلة الصحيحة الدالة على سماع الموتى، فاعلم أن الآيات القرآنية كقوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} [النمل: 80] وقوله: {وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القبور} [فاطر: 22] لا تخالفها. وقد أوضحنا الصحيح من أوجه تفسيرها وذكرنا دلالة القرائن القرآنية عليه، وأن استقراء القرآن يدل عليه.
وممن جزم بأن الآيات المذكورة لا تنافي الأحاديث الصحيحة التي ذكرنا أبو العباس ابن تيمية رحمه الله فقد قال في الجزء الرابع من مجموع الفتاوى من صحيفة خمس وتسعين ومائتين إلى صحيفة تسع وتسعين ومائتين ما نصه: وقد تعاد الروح إلى البدن في غير وقت المسألة كما في الحديث الذي صححه ابن عبد البر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من رجل يمر بقبر الرجل الذي كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد عليه روحه حتى يرد عليه السلام» وفي سنن أبي داود وغيره عن أوس بن أبي أوس الثقفي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن خير أيامكم يوم الجمعة فأكثروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة عليّ قالوا يا رسول الله: كيف تعرض صاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» وهذا الباب فيه من الأحاديث والآثار، ما يضيق هذا الوقت عن استقصائه مما يبين أن الأبدان التي في القبور تنعم وتعذب إذا شاء الله ذلك كما يشاء وأن الأرواح باقية بعد مفارقة البدن ومنعمة أو معذبة. ولذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام على الموتى، كما ثبت في الصحيح والسنن: أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم» وقد انكشف لكثير من الناس ذلك حتى سمعوا صوت المعذبين في قبورهم، ورأوهم بعيونهم، يعذبون في قبورهم في آثار معروفة، ولكن لا يجب أن يكون دائمًا على البدن في كل وقت، بل يجوز أن يكون في حال.
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثًا ثم أتاهم فقام عليهم فقال: «يا أبا جهل بن هشام، يا أمية بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة: أليس قد وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا؟ فإنني قد وجدت ما وعدني ربي حقًا. فسمع عمر رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يسمعوا وقد جَيَّفُوا؟ فقال: والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا، ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في قَلِيب بدر» وقد أخرجاه في الصحيحين، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر، فقال: «هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا؟ وقال إنهم ليسمعون الآن ما أقول» فذكر ذلك لعائشة فقالت: وهم ابن عمر، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنهم ليعلمون الآن أن الذي قلت لهم هو الحق» ثم قرأت قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} حتى قرأت الآية.
وأهل العلم بالحديث اتفقوا على صحة ما رواه أنس وابن عمر وإن كانا لم يشهدا بدرًا، فإن أنسًا روى ذلك عن أبي طلحة، وأبو طلحة شهد بدرًا كما روى أبو حاتم في صحيحه، عن أنس عن أبي طلحة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلًا من صناديد قريش، فقذفوا في طوى من أطواء بدر، وكان إذا ظهر على قوم أحب أن يقيم في عرصتهم ثلاث ليال، فلما كان اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها فحركها ثم مشى وتبعه أصحابه، وقالوا ما نراه ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفاء الركي، فجعل يناديهم بأسمائهم، وأسماء آبائهم: يا فلان بن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا بنا حقًا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تكلم من أجساد ولا أرواح فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم توبيخًا، وتصغيرًا، ونقمة، وحسرة، وتنديمًا. وعائشة، قالت فيما ذكرته كما تأولت.
والنص الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على تأويل من أصحابه وغيره، وليس في القرآن ما ينفي ذلك. فإن قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} إنما أراد به السماع المعتاد الذي ينفع صاحبه، فإن هذا مثل ضربه الله للكفار، والكافر تسمع الصوت، ولكن لا تسمع قبول بفقه، واتباع كما قال تعالى: {وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة: 171]، فهكذا الموتى الذين ضرب بهم المثل لا يجب أن ينفي عنهم جميع أنواع السماع، بل السماع المعتاد كما لم ينف ذلك عن الكفار، بل انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به. وأما سماع آخر فلا ينفي عنهم. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن الميت يسمع خفق نعالهم، إذا ولوا مدبرين، فهذا موافق لهذا فكيف يرفع ذلك. انتهى محل الغرض من كلام أبي العباس ابن تيمية رحمه الله، وقد تراه صرح فيه بأن تأول عائشة لا يرد به النص الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس في القرآن ما ينفي السماع الثابت للموتى في الأحاديث الصحيحة.
وإذا علمت به أن القرآن ليس فيه ما ينفي السماع المذكور، علمت أنه ثابت بالنص الصحيح، من غير معارض.
والحاصل: أن تأول عائشة رضي الله عنها بعض آيات القرآن، لا ترد به روايات الصحابه العدول الصحيحة الصريحة عنه صلى الله عليه وسلم، ويتأكد ذلك بثلاثة أمور:
الأول: هو ما ذكرناه الآن من أن رواية العدل لا ترد بالتأويل.
الثاني: أن عائشة رضي الله عنها لما أنكرت رواية ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم إنهم ليسمعون الآن ما أقول. قالت: إن الذي قاله صلى الله عليه وسلم: «إنهم ليعلمون الآن أن الذي كنت أقول لهم هو الحق» فأنكرت السماع ونفته عنهم، وأثبتت لهم العلم، ومعلوم أن من ثبت له العلم صح منه السماع كما نبه عليه بعضهم.
الثالث: هو ما جاء عنها مما يقتضي رجوعها، عن تأويلها المذكور إلى الروايات الصحيحة.
قال ابن حجر في فتح الباري: ومن الغريب أن في المغازي لابن إسحاق رواية يونس بن بكير بإسناد جيد، عن عائشة مثل حديث أبي طلحة وفيه: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» وأخرجه أحمد بإسناد حسن. فإن كان محفوظًا فكأنها رجعت عن الإنكار لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة، لكونها لم تشهد القصة. انتهى منه. واحتمال رجوعها لما ذكر قوي، لأن ما يقتضي رجوعها ثبت بإسنادين.